عندما كان رجال الإنقاذ ينهمكون ليلة الأحد/ الاثنين في انتشال الضحايا من تحت أنقاض منزل آل بعلوشة في جباليا؛ توقّع بعضهم إخراج أشلاء قادة مستهدفين أو حتى مقاومين يلاحقهم القصف، فكانت المفاجأة أنّ الضحايا هنّ خمس شقيقات من الأطفال، في فاجعة فلسطينية جديدة.
ثمّة ما يمنح الانطباع أنّ قائمة الأهداف العسكرية والأمنية والشرطية في غزة، قد انتهت. فكلّ المقارّ الأمنية والشرطية تم قصفها وتسويتها بالأرض أو تدميرها. ثم عادت موجات القصف لتعيد تدمير تلك المقار الخالية مراراً وتكراراً.
ومع ذلك؛ فإنّ الطائرات الحربية من طراز "إف 16"، ومروحيات "الأباتشي"، تواصل التحليق بكثافة في أجواء القطاع، بحثاً عن أهداف جديدة، دون أن تعثر على ما يفتح الشهية.
وبهذا بات العنوان المستهدف طوال اليوم الثاني من القصف، هو المساجد، والمنازل، والجامعة الإسلامية التي تعدّ كبرى الجامعات الفلسطينية، ومحطة فضائية "الأقصى"، وجمعية خيرية، ومنشآت تعليمية واجتماعية، ثم قوارب الصيادين.
ويرسم "سلوك القصف" الإسرائيلي تقديرات بأنّ نفاد القائمة النوعية قد حرّض على تكرار قصف الأهداف ذاتها، والانتقال سريعاً جداً من "الأهداف النوعية" إلى "الأهداف الليِّنة"، حيث لحوم الأطفال تتحوّل سريعاً إلى أشلاء، وبطرق مأساوية جداً، كما عرفتها ليلة الأحد/ الاثنين، عائلة بعلوشة في جباليا، وعائلة العبسي في رفح.
فعائلة بعلوشة، تفقد خمسة من البنات الشقيقات، في سنّ الطفولة، سقطن شهيدات تحت القصف الذي أتى على مسجد الشهيد عماد عقل بمخيم جباليا، في مأساة فلسطينية جديدة. وسرعان ما تتوارد الأنباء عن فاجعة أخرى في رفح، حيث يسقط ثلاثة أطفال أشقاء من عائلة العبسي، في قصف شبيه.
يستميت رجال الإنقاذ الفلسطينيون في إسعاف الضحايا والمصابين، فتلاحق سيارات الإسعاف الصواريخ للوصول إلى حيث الأهداف بعد لحظات خاطفة من الارتطام المتفجِّر، دون أن يتم العثور على قادة عسكريين أو رجال مقاومة بين الأنقاض، فالعدوان لا يجد ما يستهدفه من الأهداف النوعية.
ولأنّ العدوان مُبرمَج كي يستمر، وكي يوقع ضحايا بالمئات في كل يوم؛ فإنّ على القصف أن يتواصل في كل اتجاه، حتى بدون الخروج بأسماء تشفي غليل القيادة الإسرائيلية. هكذا توجّب على المساجد الآمنة والجمعيات الخيرية والمؤسسات الإعلامية والمنشآت الأكاديمية والتعليمية، وميناء الصيادين، فضلاً عن منازل المواطنين الفلسطينيين؛ أن يُؤتَى بها تباعاً إلى مذبح العدوان بكل ما فيه من بشاعة.
وما يطلق العنان لأقصى التوقعات؛ أنّ العدوان ما زال في بواكيره على ما يبدو، إن صدق وعيد القادة الإسرائيليين. فإذا كانت المسارعة إلى قصف المساجد والمؤسسات المدنية ذات الحصانة المفترضة تجري في الجولات الأولى؛ فما الذي يمكن انتظاره عندما تتواصل الحملة الحربية، وتلتحق بها قطاعات إضافية من الجيش المعروف برشاقته على أزرار الإطلاق؟!.
في كل الأحوال؛ فإنّ المسار الذي يتخذه العدوان بإيغاله في قصف الأهداف المدنية ذات الحصانة؛ قابل لأن يرتدّ سريعاً وبقوّة على الحملة الدعائية التي استبقت القيادة الإسرائيلية الحرب بها، محاوِلة إضفاء المبرِّرات والذرائع عليها. وسيرفع هذا كلّه من الكلفة الأخلاقية للعدوان، ويقطع الطريق على من يتساوقون معه، وسيلهب الجماهير الآخذة في الانتفاض على امتداد الأمة، وعواصم عالمية شتى، بما قد يفرض عاملاً غير محسوباً إلى معادلة أريد لها أن تكون محسوبة بدقة متناهية.